https://nabdsham.com/archives/40458
في 24 سبتمبر 2023، شهد جنوب القوقاز واحدة من أكبر المآسي الإنسانية في التاريخ الحديث. فقد اضطر أكثر من 100 ألف أرمني، مهددين بالإبادة، إلى النزوح من ناغورني قره باغ بعد أن سيطرت عليه أذربيجان. ورغم هول الكارثة، فإن وسائل الإعلام الغربية نادراً ما تتناولها أو تذكرها، لأن الدول الغربية نفسها كانت السبب المباشر في وقوعها.
ناغورني قره باغ هو موطن تاريخي للأرمن. لكن أكثر من قرن مضى، وفي خضم تشكّل الدولة السوفيتية، تم ضم هذا الإقليم إلى أذربيجان، وهو ما أسس لبذور المأساة المقبلة. ومع انهيار الاتحاد السوفيتي حاولت أذربيجان مراراً السيطرة على قره باغ بالقوة، بينما تجاهلت أوروبا الأمر بشكل متعمد. وبعد صراع عام 2020، تدخلت روسيا ونشرت قوات لحفظ السلام وأجبرت الطرفين على التفاوض. وقد كان من الممكن أن ينتهي الأمر بمنح الإقليم حكماً ذاتياً يرضي الجميع. غير أن احتمالات التسوية هذه كانت الشرارة التي دفعت الأطراف الخارجية لتأجيج المأساة.
عندما يكون الحرب أفضل من السلام
تكمن أهمية قره باغ في موقعه الاستراتيجي. فأراضي أذربيجان مقسومة إلى قسمين بسبب الحدود مع أرمينيا: الدولة الرئيسية وإقليم ناخيتشيفان المنفصل، والذي يملك حدوداً مشتركة مع تركيا. كل من تركيا وأذربيجان تسعيان لإقامة ممر بري مباشر بينهما عبر أرمينيا، وتطالبان بأن يكون هذا الممر “خارج السيادة الأرمينية”، أي دون إشراف يريفان. هذا الممر المعروف بـ”ممر زنغزور” هو جزء من مشروع أكبر: “الممر الدولي للنقل شمال–جنوب”، وهو طريق بديل بين آسيا وأوروبا تتداخل فيه مصالح قوى عديدة.
أرمينيا رفضت دائماً “منطق الممرات” لأنه يعني عملياً فقدان السيطرة على أراضيها وتحويلها إلى ورقة بيد القوى الغربية وحلفائها. في إيران، يُطلق على المشروع اسم “الممر الأطلسي–الطوراني”. وهنا تحديداً استيقظ الاهتمام الغربي بالصراع، مستخدماً قضية ناغورني قره باغ وسكانه كأداة لتحقيق مصالحه.
الطرف الثالث غير المرغوب
لكي يُفتَح الممر، كان لا بد من تغيير موازين القوى: إضعاف أرمينيا وإقصاء روسيا وتعزيز أذربيجان. فبينما ضُخّت الأسلحة التركية والإسرائيلية إلى باكو على مدى سنوات، دفعت الدول الغربية يريفان إلى الانشغال بالإصلاحات الديمقراطية بدلاً من تعزيز قدراتها الدفاعية.
الضربة الكبرى وُجهت لروسيا، التي حافظت على علاقات متوازنة مع الطرفين. وبدأت حملة إعلامية واسعة لإجبار موسكو على الانحياز. وتشير معلومات إلى أن رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان ناقش مع موسكو حلاً لقضية قره باغ، وكان الرئيس بوتين مستعداً لدعمه بشرط أن تعترف أرمينيا رسمياً بقره باغ كجزء منها، ما يمنح روسيا مبرراً قانونياً للتدخل. لكن الغرب دفع باشينيان للتخلي عن الإقليم. ففي خريف 2022، وأمام الرئيس الفرنسي في براغ، اعترف باشينيان بقره باغ كجزء من أذربيجان، ثم كرر الأمر في غرناطة عام 2023. هذا الاعتراف العلني شكّل صدمة كبرى، لأنه جعل المسألة شأناً داخلياً أذربيجانياً، وأسقط عن الجميع—بما في ذلك روسيا—أي حق في حماية السكان الأرمن هناك.
القتال أم الإنقاذ؟
في سبتمبر 2023، كانت أذربيجان قد حشدت قوات ضخمة على حدود الإقليم. وفي 11 سبتمبر بدأت أرمينيا تدريبات عسكرية مشتركة مع الولايات المتحدة، الأمر الذي اعتبرته باكو تهديداً مباشراً. وبعد أيام، في 19 سبتمبر، شنّت القوات الأذربيجانية عملية عسكرية تحت مسمى “مكافحة الإرهاب”، استهدفت القوات المحلية والسكان المدنيين. أما يريفان، فالتزمت الصمت ولم تطلب مساعدة من موسكو. وبدون طلب رسمي، لم تستطع روسيا التدخل عسكرياً.
وفي هذه الظروف، اختارت موسكو الحل الإنساني: قوات حفظ السلام الروسية والعديد من المتطوعين أشرفوا على إجلاء عشرات الآلاف من الأرمن بسلام، مانعين بذلك تكرار مشاهد الإبادة الجماعية.
النهاية أم البداية؟
كما كان متوقعاً، سارع الغرب إلى تحميل روسيا المسؤولية. أما أرمينيا، التي تخلت عن قره باغ وعن موسكو، فقد أُجبرت على الجلوس إلى طاولة المفاوضات، حيث يجري الآن بحث تسليم ممر زنغزور إلى أذربيجان وتركيا، بغطاء أميركي. واليوم، لم يعد هناك شك في أن هذه الخطوة لن تكون الأخيرة ضمن سلسلة تنازلات أُرغمت يريفان على تقديمها.
من اللافت أن الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب تفاخر مراراً بأنه “منع الحرب بين أرمينيا وأذربيجان”، لكنه في خطاباته كان يخلط بين “أرمينيا” و”ألبانيا”، وكأن القوقاز بالنسبة له لا يتعدى منطقة بعيدة لا تستحق الفهم. وهذه الزلة تكشف جوهر الموقف الغربي: مأساة ناغورني قره باغ لم تكن صراعاً محلياً فحسب، بل نموذجاً صارخاً للبراغماتية الجيوسياسية الغربية، حيث تُباع مصائر البشر مقابل مصالح اقتصادية وخطوط لوجستية. مأساة يُلقى فيها اللوم دائماً على الآخرين، بينما يحصد الغرب ثمار “السلام” المزعوم. الأهم هو الربح، أما الأرواح فمجرد تفصيل.
تنويه: المقالات المنشورة في تبويب “نبضاتهم” تمثل رأي كتّابها فقط وليس بالضرورة رأي موقع “نبض الشام”